مقالات للكاتب

طراد حمادة

الأربعاء 26 شباط 2025

شارك المقال

في مراتب الفقد وفقدان القادة

(هيثم الموسوي)
(هيثم الموسوي)


في النفس الإنسانية، تتعدّد أشكال الإحساس بالفقد. وكل حالة لها إفصاحها اللغوي، وكذلك إفصاحها المتعالي على اللغة. ولعلّ أحداث الحروب وما تشهده من القتل وآلام الفقد، تمثّل مسرح النفس لإظهار إحساسها المتعدّد، حتى يمكن أن نجد في كل حالة فقدٍ ميزتها الخاصة في حزنها وآلام الفراق.
لا يلتقي الإنسان بالموت. لأنه حين يحضر الموت يكون الإنسان غائباً، وحين يغيب الموت يكون الإنسان حاضراً. لا يلتقي الإنسان موته ويعرف أنه مائت، لأنه يشاهد موت الآخر. وإحساسه بالموت يقوم على شعور موت الآخر ومعاناة آلامه. حتى يختلط الإحساس فيه بعشق الحياة. الموت قاهر اللذات، لكنه محفّز للتمسّك بالحياة.

يقول الشاعر الألماني غوته مخاطباً اللحظة الأخيرة قبل موته كما ورد في مسرحية «دكتور فاوست»:
«تلبثي تلبثي
لأنت رائعة الجمال».

يحيط القلق الوجودي في الإنسان إحاطة تامّة من جميع جوانبه، ولعلّ السبب الأساسي لهذا القلق الوجودي هو الموت. معرفة الإنسان أنه كائن فانٍ يسبّب له القلق الوجودي، يحيط به ولا ينفكّ عنه حتى لو ظنّ أنه متحصّل من أسباب أخرى. لكنه يدرك أن كل الأسباب التي لا تؤدّي إلى الموت لا تبعث على القلق الوجودي المحيط. نجد هذا الإحساس في الفكر الفلسفي القديم والمعاصر.

إنّ الحلّ القرآني لمشكلة قلق النفس الوجودي هو الطمأنينة التي تشعر بها. «النفس المطمئنة»؛ فترجع إلى ربّها راضية مرضية وتدخل في عباده وتدخل في جنّته. صفة الطمأنينة للنفس الإنسانية أثارت انتباه الشيخ الرئيس ابن سينا، فذكر، في كتابه «الإشارات والتنبيهات»، أن العارف «هشٌّ بشٌّ بسّام وهو في تقية من خشية الموت». عدم الخشية من الموت من صفات العارف لأنه صاحب النفس المطمئنة. يقود هذا النظر في أحوال النفس إلى اختبار تجربة العشّاق الموتى سلفاً من الشهداء الذين يجدون ذائقة الموت في سبيل الله أحلى من العسل. قال الإمام علي بن الحسين: «إن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة»، ولأن الشهادة كرامة، يصطفي الله الشهداء ويصبح فقدهم وثيق الصلة باعتبار فقدان النفس المطمئنة، وعليه يتقبّل ذووهم التبريكات. «شهادة مباركة» يقول الناس في مأتم الشهيد. ويطلق عليه صفة «السعيد». «الشهيد السعيد» يقدم على الموت ولا يخشاه ويحسبه جميلاً لأنه في عين الله.

هذا ما سوف يحصل مع الأيام بالنسبة إلى شهادة السيد حسن وقادة حزب الله؛ إنّ الأمّة تكون أكثر تعلّقاً بنهجهم وخطهم وسيرتهم وسيرهم وسلوكهم

ومع ذلك، يكون الإحساس بالفقد حاضراً ويعبّر عنه بأشكال متعدّدة من الإفصاح، الذاتي والجماعي، وقد شاهدنا مظاهر هذا الإفصاح في تشييع الشهيدين السعيدين، سيد شهداء الأمّة السيد حسن نصرالله والشهيد الهاشمي السيد هاشم صفي الدين. كان التشيع مهيباً فيه الحزن الصارخ والبيعة الصادقة والثبات على النهج على قاعدة «إنّا على العهد»، وكان الإحساس عميقاً في فقد الروح ومحلّ جذب الأفئدة وتعلّق الجماعة. ولذلك، نجد أنّ الآثار البعيدة لهذا الفقد على مستوى الجماعة الإنسانية أكثر أثراً وديمومة.
نستطيع أن نقسّم الفقد في تراتبية متدرجة؛ من فقد القريب مثل الوالدين والأبناء والإخوة والزوج والزوجة، إلى فقد الصديق من المعارف والأصحاب ورفاق الدرب وروابط العقيدة والسياسة والمبادئ والمصالح. كل فقد له مظاهره وآثاره، حزنه وآلامه في زمانه ومكانه، وقد يتصاعد وقتاً ثم يخف ثقله مع الأيام، حتى قيل إن النسيان دواء الفقدان، وطالما ندعو بكسب الأجر وإلهام الصبر والسلوان.

كل هذه الآثار لها مظاهرها وتعلّقاتها، لكن يتميّز فقدان القائد في الميدان بصفات متّصلة الأثر. إنه روح الجماعة، ومَثَلها، وقدوتها. ولذلك، يصبح ألم الفقدان أكثر وقعاً، ولا يخفت أثره مع الأيام. بل تصبح ذكراه محل استعادة لكل ما ارتبط بهذا الفقدان من آثار. هذا الإحساس العميق المستدام يحيط بنا.

وحتى نعرف كيف ودّع أشرف الناس قادتهم في التشييع المهيب، ولماذا حصل ذلك الوداع، يلزم أن ندرك البعد الروحي في رابطة الجماعة الإنسانية. وكيف يكون استشهاد القادة يشبه علاقة الروح والجسد في تقبّل الآثار، وتحمّل الآلام، والإفصاح عن الأحزان، والثبات على النهج، وهو محل إلهام وتعبئة وقدرة على النهوض والقيام.
هذا ما سوف يحصل مع الأيام بالنسبة إلى شهادة السيد حسن وقادة حزب الله؛ إنّ الأمّة تكون أكثر تعلّقاً بنهجهم وخطهم وسيرتهم وسيرهم وسلوكهم، حتى تكون على العهد وميثاق الروح.

يستفيد هذا الرابط الإنساني من فعل العشق. ولذلك قيل عن الشهداء في شعر الإمام روح الله الموسوي الخميني إنهم العشاق الموتى سلفاً. إنه الفناء في الحب والذي يكون من آثاره صحو البقاء.

سيكون السيد حسن والقادة الشهداء رموزاً للناس، أقماراً منيرة في فضاء الأمّة. السيد حسن نصرالله بطلٌ وطني وقومي وإسلامي أممي وسوف يستمرّ الناس بالتعلّق به والشعور بفقدانه. حتى إنّ هذا الإحساس الإنساني العميق يصبح حافزاً للصحوة والنهوض والقيام.
وإنّا على العهد.

* كاتب ووزير سابق

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي